ما بعد النقد: عن الشامت والعدو واليائس!

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
12/05/2010 06:00 AM
GMT



ثمة قائمة صغيرة من الاوصاف التي جمعتها من ردود على الكتابات التي ناقشت اخفاق قائمة "اتحاد الشعب" في الانتخابات الاخيرة ومنها مقالتي (أما آن الاوان..) . الخص تلك الاوصاف بالآتي: (يائسون، وشامتون، وأعداء). بدلا من مناقشة الاخفاق تعرض البعض الى ناقديه مصنفا اياهم في هذه التبسيطات الوصفية. بيد ان هذه القائمة على بساطتها، ولونها الانفعالي، تمثل بعض التعابير السائدة التي سوف استعيرها لتفحص المعترك العراقي الحالي كمنطلق للوصول بنقدي السابق الى فضاء آخر . إن الشامت والعدو واليائس، والاوصاف النقيضة التي تقابلها، الفرحان والصديق والمتفائل، قد تشرح انفعالات اعلان النتائج، وهي بالتأكيد مختلطة باسقاطات الوضعية السياسية الراهنة، لكنها لا تشكل شيئا حقيقيا، وعاجزة عن تفسير ما بات مشكلة سياسية. فما أن انتهت الاعراس والمآتم حتى خيم القنوط . المنتصرون قلقون، والفائزون يشككون، والقليل الراضي بدأ يمارس وظيفة حلاّل المشاكل من دون نجاح كبير. منتصر يهدد ومنتصر آخر يهدد. لا احد يبدو انه منتصر حقا، وأنه سعيد وسيسعد طويلا. هذا هو مكر التاريخ. فمن بنى المؤسسة الدستورية داخل الكواليس وعلى عجل حتى قبل بناء مجرد سلطة واضحة المعالم ، انما بنى بناية لم تختبر او تمتحن على نحو جدي ، وقد آن اوان الاختبارات غير المتوقعة. ومن قرر احتياجاته اولا في الوقت الذي كان الناس فيه قد فقدوا الأمن مع ابسط احتياجاتهم الاساسية، عليه ان يتوقع ظهور امراض العجالة والانانية وتواطؤات تقاسم السلطة على اساس التمثيل الطائفي والاثني. تلك هي دمامل الكواليس المعزول تظهر الى العلن. إن ما حسب تمثيلا سياسيا بات يسمى توافقا ، ثم اكتشف انه محاصصة، ومحاصصة سيئة. وما عدّ حكومة وحدة وطنية اراد اقوياؤها استبدالها بحكومة تعبر عن الاكثرية، ما جعل المتحالفون السابقون، الذين باتوا اقل قوة، يستخدمون اصطلاحية جديدة بهدف تمرير تمثيل وطني شامل. كل إجراء ينقلب ويصبح معاديا حتى لأصحابه ومناصريه .في هذه الاثناء يضع الناس أياديهم على قلوبهم خوفا من هذه النتيجة "الديمقراطية". إذن لم يعد اخفاق "اتحاد الشعب" في هذه المعمعة سوى مظهر صغير من مظاهر اخفاق كبير خطر، حيث استخدمت الطوائف والاثنيات الديمقراطية من دون ايمان ولا استعداد، حيث تكلمت الرواسب الغاطسة ، وتراجعت العقلانية والموضوعية ، وهو ما يعني أن الحريق العراقي باق.   
إنها نتيجة غريبة لكن ليست غير متوقعة ، ففي غضون السنوات الماضية تأسست سلطة تحتفظ بنظام سياسي توافقي وساخط على التوافقية، اكثري من حيث التمثيل العام غاضبة عليه الاكثرية فيوزع على الاقلية ما تتلهى به. إن السياسيين العراقيين يدركون مصالحهم كأي فلاحين واصحاب دكاكين، الا انهم لا يدركون الوضعية التي ينطلقون منها وغير قادرين على تحليلها، لأنها تغطيهم وغارقون فيها. أما الناس الذين يعيشون بفقر وقلق فقد اجبروا على خفض مطالبهم الى مستوى الوجود العاري الآمن. إنهم يائسون، وقد تخلوا عن النضال ، الا ان يأسهم وتخليهم لم يمنعهم من التصويت في الانتخابات، واستخدام ما تبقى من أمل ساخط ، أي كل ما تبقى من ارواحهم من غضب وارادة ورهان كأي احياء تتفجر الحياة في دواخلهم. ماذا يفعل الشيوعيون في هذه الوضعية الصعبة؟ لقد اختزلوا بعد ان باتوا موضوعيا جسما يعاني من قصور فيزيائي يعيد انتاج امل قديم بارد مقطوع الاذرع وبلا سيقان. سيحتجون على قانون الانتخابات، لكن سرعان ما سيظهر لهم محتجون على القانون نفسه اقوى منهم صوتا يمارسون الاحتجاجات (على راحتهم) . ولاول مرة نعرف ان جماعة سياسية تمتلك منهجا في تحليل الواقع الملموس، تنسى (تتناسى!) ان النظام الانتخابي يعبر في بنائه العام عن مصالح اولئك الذين صاغوه وأطلقوه . لا خطأ ولا سهو. لعل هناك بعض السهو الناتج عن العجالة ، وحالات (السلق) الشائعة، والا كان من الممكن ان يكون النظام الانتخابي اكثر سوءا. فليشكروا الله اذن!    
 
                                الشامتون والعدو
دعوني اوضح على نحو كاف. فأنا ارى ان الشامتين بالاخفاق الشيوعي لا يشكلون شيئا، والحالة السيكولوجية لحسني النية منهم فارغة وبائسة، فحتى لو كانوا يشمتون لكي يظهروا تفوقا فكريا ، او يدللوا على حزنهم بطريقة شرسة ، فإنهم لا يمارسون اي تحليل، ولا يوجهون سهامهم الا لضحايا وضعية اجتماعية- تاريخية. أما الاعداء فلهم شأن آخر. انهم فكرة نابتة في المراجع، وجماعة حية متبدلة، وممثلون في اساطير سياسية.
تشكل فكرة العدو اسطورة سياسية كاملة. وفي المعترك السياسي الواقعي هناك موقع للعدو في ميزان قوى متغير، أي ان العدو – موضوعيا- له قيمة في اي تحليل سياسي، سواء استهين به لاسباب عقائدية او بولغ بقوته لاسباب تتعلق بالضعف والمخاوف والتفكير الستراتيجي. إن الاعداء، حتى لو كانوا اشباحا هم جزء من ميزان القوى، يظهرون اثناء العمل ولا يمكن اقتراحهم وخلقهم، فهذا ما يفعله الديماغوجيين، وإذا ما استنتجناهم فليس باستعادتهم من الذاكرة بل بتحليل الحقل السياسي بجميع تفاصيله وامتداداته، بما فيه الماضي ، وتعاريج الذاكرة السياسية ، فضلا عن تحليل التوزيع الطبقي للمجتمع.  
 إن تحديد العدو بالنسبة للشيوعيين يبدو في الظاهر سهلا، فقد كان لهم دائما اعداء شرسين تحركهم الامبريالية والمصالح، ويأتي اغلبهم من اوساط رجعية وفاشية ، مارسوا ذبح الشيوعيين وتأليف الروايات الكاذبة عنهم. بيد ان موقع الشيوعيين في خارطة القوى السياسية الحالية، وضمن الوضعية السياسية التي ظهرت بعد عام 2003 معقد جدا، حيث لا تظهر صورة العدو التقليدي الا من باب موارب. لقد تغير المشهد كليا: دبابات الامبريالية تسير بشوارع بغداد، والعدو الطبقي افتراضي مثل برنامج في الحاسوب ، أو انه غير حاضر ككتلة اجتماعية اقتصادية ، نظرا للوضع المزري الذي تعيشه جميع الطبقات، والارهابيون وجماعات العنف يعادون الجميع، وكانوا سببا سيكولوجيا لاعمال التوحيد الطائفي وانشقاقاتها، لما تثيره اعمالهم من مخاوف وردود افعال. أما القوى السياسية الجديدة ، ولاسيما الاسلاميون منهم، فقد ابدوا تسامحا لأن الشيوعيين اضعف من ان يلفتوا الانتباه، فلا هم بيضة نسر، ولا هم بيضة قبان . فيما عدا ذلك فإن الجميع في مأزق: المشكلة الوطنية الخطرة تغطي كل الميادين في حين ان التفاسير الطائفية والاثنية لها هي الغالبة، وفي الوقت الذي جرى فتح السوق العراقية على مصراعيه واقتحامها بقوة، نجد ان القرين الفكري الليبرالي لهذا الاقتحام لا وزن له. الثروة تبدد بمشاريع وهمية ، واللصوصية حولت بقايا الدولة الى بقرة حلوب.
لقد فرض الامريكان سلسلة من التطورات الكاريكاتيرية بالتعاون مع قوى فكرت بطريقة سياسية نفعية مباشرة بلا ادوات ومناهج علمية، والادهى من ذلك انها تواطأت ما بينها وصاغت القوانين والانظمة على قدر احتياجاتها في لحظتها ، من دون ادراك المأزق المركب  : بلد محتل ، شرعيته المؤسسية غير مستقرة بعد ، ويعيش حالة نزاع دائم ، ومستقبله تتقدمه المخاوف.

                                      عدو ام منافس؟
ما دمنا لم نزل داخل الوطيس الانتخابي بعد فإن وضعية الصراع الانتخابي تغطي على فكرة العدو الصريحة والمضمرة لتحوله الى منافس او مجموعة منافسين في سباق، كما أن ما هو ظاهر من ميزات "العدو" الجسدية الاجتماعية هي اليوم محالة الى عمل سياسي يتصف بالشرعية. من الصعب ان تدعي انك تحارب (عدوا) وتثقف الناس بذلك في لحظة تنافسية يكفلها دستور، فهذا السلوك لا يحسب على وضعية ديمقراطية. إن الديمقراطية تنزل من رتبة العدو الى مستوى المنافس، كما تصيب بالخيبة اولئك الذين يجنون الارباح الشعبوية باستخدام فكرة العدو، عدو الشعب، عدو الطائفة، عدو الطبقة. إذ تقلل الديمقراطية من الوزن النوعي للعدو، ربما تماثله بالشامت، الكريه والمبتسم والصامت والمتظاهر باللامبالاة،  فهي كذلك تضع آلية التنافس بدلا من اعمال الانتقام.
ما ان توافق على شروط اللعبة الديمقراطية حتى تجد نفسك مضطرا الى استخدام ادب سياسي جديد. فبدلا من العدو تتحدث عن منافس، وإذا ما اضمرت العداوة لاسباب جد معقولة ، لأنك تعرف ان عدوك ثعلب يتظاهر، فأنت نفسك تمارس في هذا الاقرار دور الثعلب النظير. والحال ان المتنافسين لديهم فكرة عن خصومهم ونسبة قواهم حتى لو لم تكن دقيقة، سواء مارسوا التنافس كاعداء شرسين او مترابطين ضمن لعبة مشتركة أو مخاوف مشتركة.
إذا ما تفحصنا فكرة العدو التقليدية للشيوعيين، وهي فكرة تنبني عليها بعض معدات الصرح العقائدي الهائل لهم، فسنجد ان الشيوعيين الحاليين تخلوا عن الكثير من طروحات الماضي، وقد كيفوا برنامجهم لسياسة واقعية تستجيب لما يظهر على السطح، وما يمكن التعاون عليه مع القوى الاخرى. من حيث المبدأ يبدو انهم تحولوا الى حزب آخر تحت يافطة قديمة. انهم الان لا يطرحون برنامجا اشتراكيا، ولا ليبراليا صميميا ، ولا حتى برنامجا خليطا. ومن الواضح انهم ببساطة باتوا حزبا "واقعيا" في السياسة والاقتصاد مبقيا على رأسماله الرمزي الشيوعي. انها خلطة تجمع الماضي والحاضر، وقد تكون مفيدة في مجتمع مستقر، مستغرق داخل بنى سياسية واقتصادية واضحة، لكنها لن تكون خلطة متوازنة في مجتمع مفكك في حراك سياسي انتقالي ابطاله هم قادة طوائف واثنيات وحركات شعبية غير واضحة الاهداف. فبسبب الرأسمال الرمزي الشيوعي الذي قد يثير شغبا على سياستهم الواقعية، كان على الشيوعيين مواصلة تقديم الادلة على براءتهم، وانزال سقوفهم ، والتخفيف من نقدهم ، والظهور بمظهر الوطنيين قبل كل شيء وكفى. ولعلّ العصامية الاخلاقية التي تميزهم عن غيرهم قد جعلتهم وكلاء عن قضايا تضرهم داخل توزيعة القوى، فضلا عن ان طول اناتهم وصبرهم على (دلال) و(رهاوة) القوى الاخرى، ادى بهم الى الاستغراق بلعبة هم الخاسرون الوحيدون فيها، فرضت عليهم السهو عن افعال الخصم او الحليف السياسي الذي يمتلك الوقت والاموال والقوى الجاهزة. لقد ظهروا مجبرين على تصديق لعبة سياسية في طوفان التمثيل الطائفي والاثني الاناني الدائر حولهم في الوقت الذي كان شعبنا يئن فيه من الفوضى والفساد والارهاب.
إن وجود عدو بالمعنى التقليدي سيكون مريحا للشيوعيين افضل من وجود (منافسين) رتبوا امرهم وغيروا من سحنهم. واقع الحال سوف لن يجدوا (عدوا) يفرح لخسارتهم ، ولا (منافسا) يحيون نجاحه فيشكرهم ويتمنى لهم النجاح، بل سيجدون (قوى) لا تعير انتباها، ولن تلتفت لهم ولا لنقدهم لمفوضية الانتخابات ولقانون الانتخابات الا اذا صبّ لمصلحتها . على الصغار ان يختفوا او يذوبوا. الارهاب نفسه استدخل هذا المبدأ حين استفرد بالمواطنين المسيحيين والصابئة الذين تركوا وحدهم. والحال أن الارهاب بات يمارس نشاطه على وقع الشذوذ السياسي والتخندق والانانية الذي واصلته حتى الان قوى ما بعد نيسان 2003 .  
(لن اتوقف هنا عند العدو الداخلي للشيوعيين الذي كرست له ادبيات هائلة منذ الانشقاق الاشتراكي- الشيوعي في بداية القرن الماضي . كما ان اقتراحي السابق بتحولهم الى حزب اشتراكي ديمقراطي له علاقة ضعيفة بالجدل القديم التافه الذي خسر فيه الشيوعيون افدح الخسائر.) 
  
                                         الزي الموحد
لكن الشيوعيين لم ينتبهوا في هذا العرض السيكولوجي المجاني الذي خدم الخصوم والحلفاء الى أن البرامج السياسية باتت تتشابه بسبب الحالة العراقية التي تطحن الجميع طحنا ناعما، ما يستدعي ان يتميزوا هم بسقف سياسي جديد. كتب تروتسكي جملة تفيد في وصف المطحنة العراقية، قال: الناس تستجيب الى الدغدغة بأشكال مختلفة ، لكن تندّ منهم نفس الصرخة عندما تقرب من جباههم قطعة حديد ساخنة.
إن مصاعب الحالة العراقية الجدية من احتلال واستشراء العنف والفساد والحاق مؤسسات الدولة بالاحزاب والتيارات السياسية، ساعدت على نشر الواقعية في الحياة السياسية ولاسيما ان الشارع العراقي بات يغلي. من هنا وجدنا ان البرامج الانتخابية تقاربت. البؤس العراقي يماثل قطعة الحديد الساخنة التي استعان بها تروتسكي في مثاله. الناس باتوا يصرحون علنا انهم لا يريدون اكثر من الامان، وماء صالح للشرب، وعدد ساعات اكثر في الكهرباء ، ورفع الازبال عن شوارعهم وازقتهم. ماذا يعني هذا؟ يعني انهم يائسون، منهكون، تنازلوا عن حقوقهم الانسانية الاساسية  من اجل حقوق العيش الرث.
لقد وفر هذا الاملاق، هذا التدني بالحقوق، هذا التخلي عنها، قاعدة لبرامج تلبس الزي الموحد.( يا للعراق الموحد البائس!). الجميع تباروا في الشهامة والكرم وخدمة المواطنين ، فضلا عن انهم استدخلوا الواقعية السياسية، اعترافا بسلطة الواقع ، وحفاظا على جسورهم مع الاخرين، وخوفا من انشقاق كبير يخدم قوى الارهاب والعنف. بيد ان الواقعية السياسية ارتهنت بالاحجام، فالقوى الصغيرة استوعبت الواقعية كنهج سياسي، في حين ان الكتل الكبرى الممثلة للطوائف والاثنية خلطت بينها وبين المساومة. إن الحصول على توافقات في لحظات الخطر، وعلى الحافات القلقة، يمثل هذا الازدواج السياسي الذي يمارس الواقعية والابتزاز معا. إن اولئك الذين لا يؤمنون بالديمقراطية كنظام بل كآلية، وهم لا يخشون الاعتراف بهذا علنا، سيتعاونون مع اولئك الذين يريدون انتزاع المكاسب لهم باستخدام الآليات نفسها مع الظهور بمظهر الديمقراطيين الكبار. ويا له من لقاء لن يحتاج فيه الاثنان الى سياسيين مناضلين بل الى "خدم" ، لنقل الى منسقين وتقنيي افكار وحالات، أي الى اولئك الذين يعالجون العثرات بمعنوياتهم العالية، ومن يحدد الفرق بين سوء استخدام اللغة وسوء الفهم ، والمترجمين من الاستخدام الفصيح للغة الى الاستخدام الدارج، او بالعكس، من (الحسجة) الشعبية ذات الرؤوس الاربعة الى اللغة شبه "الكونكريتية"، فضلا عن تقديم النصح في الكافتريا الملحقة بالمجلس النيابي، وتهدئة الخواطر المهيجة، مع تقديم المثال على اهمية احترام الوقت، ومواصلة الحضور في جلسات المجلس مثل طلاب نجباء.
من اين يؤتى بهؤلاء التقنيين الا من القوى الوسطية، القوى التي تستطيع ان ترى المأزق الوطني من دون أثقال طائفية واثنية؟ كان الشيوعيون ، مع عدد من الجماعات المتوسطة ، واصحاب الارواح، قد تحولوا الى هؤلاء التقنيين الذين يسهمون في حل مشكلات الاخرين ليجدوا ان مشكلتهم ليس لها حل!
نعم الألم يوحد، بيد أن هذا ما يعرفه جيدا الفقراء ويفعلونه ويختارونه، كذلك الناس الاصحاء المسؤولون، ومن لديه روحا، ومن يحب تقاسم رغيف الخبز مع الآخرين من دون عقد طبقية وطائفية وقومية.  لقد مارست قوى سياسية الابتزاز السياسي في اقسى لحظات الالم ، ومارست الروح الانشقاقية في لحظات الخطر. قوى تدرك المشكلة ووضعت في برامجها الانتخابية ما يصلح لعودة الكهرباء وانهاء البطالة ، تماما كما فعلت منافستها، لكن رواسبها الغاطسة في العمق تحركها باتجاه الحصول لا على البضاعة وحسب بل والميزان الذي وزنها !
هذه القوى نفسها هي التي اسهمت في صياغة قوانين سيئة ، وهي نفسها مسؤولة عن تحويل العرس الانتخابي الى نواح. 
إن البعض الذين كانت تأسرهم ادبيات النقد الذاتي وجدوا في تحليلي لخسارة الشيوعيين العلنية تنكيلا في غير محله أضيف الى تنكيل الوضعية السياسية . كان يجب السكوت حتى تخف المرارة، ما كان يجب ان اجعل المرّ "أمرّ"! بيد ان تحليلي ، على مرارته، تناول المشهد السياسي للوطيس العراقي ايضا، فهل رأى هذا البعض انني اشير الى اشباح يجب الا اشير اليهم في هذا المشهد؟ ربما. بيد انهم ظلوا اشباحا بسبب تأشيراتي المواربة. عندما ينتهي هذا الفصل المحزن ربما سيرفعون هم اصابعهم ويصيحون : نحن هنا! إن العدو المستتر خطر. الأخطر ان يصبح اصحاب القضية اعداء انفسهم. أذكّر انني تحدثت عن ميزان قوى مع تركيبة من السلوكيات السياسية المصاحب له ، اي كل ما يجعل ذلك "التنكيل" ممكنا وحادا ويحتاج الى امعان النظر. إن من يؤشر الى الخاسرين في الوضعية العراقية سيكون نذلا اذا لم يؤشر الى اولئك الذين يمشون على ارض العراق المأساوية بمرح. كم عددهم؟ لينجنا الرحمن من شرورهم! 
 
                                     اليائسون
العراقيون اليوم بلا دولة حقيقية، والسلطة التي من المفترض ان تعينهم على صعوباتهم منقسمة ، والصراع مع قوى الارهاب والعنف لم يحسم بعد. افراح الانتخابات واحزانها افضت الى وضع خطر ، وقادة السياسة عندنا يبتزون بعضهم البعض في الوقت الذي يتجرع مواطنوهم الذل والمهانة والموت. من هنا فالحديث عن يائسين كتهمة معيبة لا يأتي الا من السوبرمانات!
اليأس مدعوم بوضعية كاملة . لكن حتى في اليأس ثمة تمايزات ودلالات خاصة تنتجها الحياة في الافكار واشكال المعرفة، ما يمكن معها ان نرى اليأس ضمن لحظة تاريخية، أو لحظة فلسفية ، وكحافز للتفكير والتدبر . لقد اعتاد الشيوعيون الشرب من  كأس مترعة بالامل التاريخي البارد ، كأس من لون واحد تجعلك مطمئنا الى الغد، لكل غد. لكن كأس الانتشاء هذا انما هو ترياق ضد الحقيقة. إن التاريخ الحي يكذّب اصحاب الامل الذين ضيعوا معداتهم. إن سياسة في الامل تحتاج قبل كل شيء الى اداة قياس وبوصلة وربابنة يعرفون الفرق بين دخان الحرائق وضباب الفجر .
كلما كثرت الخسائر التي لا يجري تحليلها، والتراجعات الغثة الناتجة من عبادة الافكار والاشخاص والتحاليل الفقيرة التي لا تساوي الورق الذي تكتب فيه ، زادت نسبة اليأس العادي والجاهل. هناك فرق بين يأس جاهل ويأس متفكر. إنني من المؤمنين بوجود هذا الفرق. إن تلك التركيبة الاديولوجية القائمة على الاطمئنان البارد بوعد التاريخ في تحقيق العدالة تطرد من صفوفها اليائسين. اليائسون حسب رأيها متذبذبون ، بورجوازيون صغار، لكن اليائسين كما ارى هم اصحاب الشكوك الكبرى ، الجدليون الانسانيون غير المتوهمين بالانسان ، العاطفيون ، الباكون بكاء المتصوفة، المتألمون، الزهاد ، عفيفو اليد واللسان. هؤلاء الذين بعد ان يقوموا بواجبهم الانساني يعودون الى بيوتهم لكي يموتوا بهدوء من دون ضجة وعتعتة ورعونة .. وفي صدورهم تنام فكرة صغيرة يمكن تلخيصها بهزة رأس موافقة. 
ليس اليأس مخيفا. المخيف هو الافراط في الامل. الافراط في الايمان بوعد التاريخ في تحقيق العدالة. أفضّل صفة يائس على فاشي، يائس على رجل يمرح بسلاحه القاتل ، يائس على  طائفي يمشي في الارض مرحا، يائس على لص يسرق الدولة. اليأس يتضمن – لو يدرون - موقفا فكريا تحليليا. إنه ليس ضد الفاعلية السياسية، وليس هو ضد الامل. 
كتب كامو جملة ذكية : إن انعدام الامل لا يلغي امكانات الواقع . ها هو مثال على فكرة الفرق . لكن علينا ان نتأمل جيدا جملة اعتقد انها لهيغل: اليأس؟ بل قل اليأس الفعّال!
ماذا يعني هيغل بهذا اليأس الفعّال؟ اظنه يدعو دائما الى اليأس من اللحظة الراهنة (الجدل السالب)، (النقد – هذا الذي لا يخشى عواقبه). بهذا المعنى هناك لحظة أخرى علينا أن نصنعها .. لحظة  التركيب ، ربما القبول ، ربما بدمج اليأس الفعال بالامل المشرق ، دمج المعرفة بفرح الارادة .. ثم بالدموع والتهاليل والدعوات والصلوات..